مجزرة حماة- عدالة انتقالية، مصالحة، ومستقبل سوريا.

المؤلف: فضل عبد الغني09.17.2025
مجزرة حماة- عدالة انتقالية، مصالحة، ومستقبل سوريا.

تعدّ فاجعة حماة عام 1982 شاهدًا دامغًا على أهوال الماضي السوري الحديث، حيث حصدت أرواح أعداد غفيرة من الأبرياء، وخلّفت ندوبًا عميقة في الوجدان الوطني، لا تزال آثارها ماثلة حتى اليوم.

وقد اكتسبت هذه المأساة أبعادًا بالغة الأهمية، خاصة في ظل المستجدات السياسية المتلاحقة التي تشهدها البلاد، والمتمثلة في زوال حكم الأسد وتشكيل حكومة انتقالية جديدة. ففي خضم هذا التحول النوعي، يصبح إعادة فتح ملف هذه المجزرة المروعة، والكشف عن ملابساتها الكاملة، ومحاسبة الضالعين فيها، ضرورة حتمية لإرساء دعائم دولة تقوم على أسس العدل والقانون وصون كرامة الإنسان.

ولا يمكن إدراك أهمية إعادة فتح ملف مجزرة حماة بمعزل عن مبادئ العدالة الانتقالية، تلك الآلية التي صُمِّمَت خصيصًا لمساعدة المجتمعات التي خرجت من أتون النزاعات الداخلية أو تحت وطأة الأنظمة الاستبدادية، على تجاوز تركة الماضي القمعي، والانطلاق نحو مستقبل جديد قوامه الحقيقة والمحاسبة وجبر الأضرار وضمان عدم تكرار الفظائع.

وانطلاقًا من هذه المبادئ السامية، يصبح الاعتراف الرسمي بالجرائم السالفة والانتهاكات الممنهجة خطوة جوهرية في سبيل تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة وإحلال السلام المجتمعي المنشود.

لمحة سياسية موجزة

شكّلت تجربة استيلاء حزب البعث على السلطة في سوريا عام 1963 نقطة تحول حاسمة في تاريخ البلاد السياسي المعاصر، حيث تبددت آنذاك كل الآمال المعلقة على بناء نظام دستوري برلماني تعددي، وجاء "انقلاب الثامن من آذار" ليضع مقاليد الحكم بشكل شبه كامل في قبضة اللجنة العسكرية لحزب البعث.

وفي غمرة التغيرات التي أعقبت تلك الفترة، بزغ نجم حافظ الأسد كأحد أبرز أعضاء هذه اللجنة، ثم استأثر بالسلطة لنفسه عام 1970 فيما عُرف بـ"الحركة التصحيحية"، ليحكم قبضته على المؤسسات الرئيسية، ويشدد الخناق على مفاصل الدولة والمجتمع.

وخلال تلك الحقبة المظلمة، أحكم نظام الأسد سيطرته المطلقة على السلطات الثلاث: (التنفيذية والتشريعية والقضائية) عبر منظومة من القوانين الجائرة والإجراءات الأمنية المشددة. فقد جرى تقويض أركان الحياة السياسية الحقيقية بمؤسساتها وأحزابها المستقلة، ودمج النقابات والاتحادات المهنية ضمن هياكل رسمية حزبية.

وفي ظل هذا المناخ القمعي الخانق، ساد نمط "حزب واحد، قائد واحد"، وتلاشت أي منافذ للمعارضة السياسية أو التعبير الحر عن الرأي.

ومع غياب الرقابة الدولية الفعالة وتداعيات الحرب الباردة، وجد نظام الأسد نفسه مطلق اليد في التعامل مع من يعتبرهم خصومًا، الأمر الذي مهد الطريق لوقوع انتهاكات جسيمة على غرار مجزرة حماة عام 1982، والتي ما كانت لتصل إلى هذا المستوى من العنف الممنهج، لولا استقرار نظام يفتقر إلى أي التزام حقيقي بحقوق الإنسان، أو بالضوابط الدستورية والرقابية.

مجزرة حماة في شباط/فبراير 1982

على خلفية التوترات السياسية والأمنية التي عصفت بالبلاد أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات، اندلعت في مدينة حماة مواجهات دامية بين قوات النظام السوري ومسلحين معارضين (بينهم من انضووا تحت لواء جماعة الإخوان المسلمين أو تعاطفوا معها).

وقد استغل النظام هذه المناوشات المحدودة لشن حملة أمنية وعسكرية واسعة النطاق على المدينة بأسرها، بدءًا من مطلع شهر شباط/فبراير 1982، واستمرت قرابة شهر كامل، مُوظِّفًا أقصى درجات البطش والوحشية.

حجم القوات المشاركة والطابع "الممنهج" للهجوم

وجَّه النظام السوري آنذاك تشكيلات عسكرية ضخمة نحو مدينة حماة، شملت قوى الوحدات الخاصة وسرايا الدفاع وبعض ألوية الدبابات، إضافة إلى أجهزة الأمن والاستخبارات.

فرضت هذه القوات حصارًا مطبقًا على المدينة، فقطعت عنها الماء والكهرباء وخطوط الاتصال، لتتحول حماة إلى منطقة معزولة عن العالم الخارجي. وفيما كان الدافع المعلن هو القضاء على "جيوب مسلحة"، فإن حجم الانتشار العسكري والأساليب المتبعة أظهرا أن الهدف الحقيقي كان معاقبة المدينة وسكانها، وذلك بالنظر إلى استخدام أساليب مثل: القصف الهمجي بالمدفعية والطيران، وعمليات الإعدام الميداني البشعة، والنهب المنظم للأحياء السكنية.

تكشف الشهادات التي جمعها باحثون وحقوقيون (انظر تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان بمناسبة الذكرى الأربعين لمجزرة حماة في شباط/فبراير 2022)، خلال السنوات اللاحقة – على ندرتها وصعوبة التحقق منها آنذاك بسبب التعتيم الإعلامي – عن نهج ممنهج في الهجوم، اتُّبع فيه نمط "التدمير الشامل" للأحياء التي عُدّت حاضنة للمعارضة المسلحة، دون تمييز فعلي بين مدنيين ومسلحين. وبذلك تحوَّل ما وُصف أول الأمر بـ"عملية أمنية محدودة" إلى أضخم الحملات القمعية في تاريخ سوريا الحديث.

تقديرات الضحايا وحجم الانتهاكات

يصعب الوصول إلى أرقام دقيقة بشأن حصيلة القتلى والمفقودين جراء التعتيم الشديد الذي فرضه النظام على المدينة. ومع ذلك، تتقاطع التقديرات الحقوقية والدراسات اللاحقة لتشير إلى مقتل ما بين 30.000 و40.000 مدني خلال تلك الحملة الشرسة، علاوة على نحو 17.000 شخص يُرجَّح أنهم تعرّضوا للاعتقال التعسفي أو الإخفاء القسري، ولا يزال مصير معظمهم مجهولًا حتى اليوم. وانتشر في المدينة العديد من المقابر الجماعية.

الدمار الشامل ونهب الممتلكات

لم تقتصر الانتهاكات على القتل والاعتقال الواسع فحسب، بل شملت أيضًا التدمير الممنهج لقطاعات واسعة من أحياء المدينة، خاصة الأحياء التاريخية في مركزها وأطرافها القديمة.

وقد تصاعدت وتيرة عمليات القصف المدفعي والجوي لتسوِّي مباني بأكملها بالأرض، ومنها مساجد وكنائس وأسواق تقليدية تُمثِّل ذاكرة تراثية عريقة للمدينة.

وبالتوازي مع ذلك، سُجِّلت حوادث كثيرة للنهب المنظم، حيث جُرِّد العديد من المنازل والمتاجر من محتوياتها على يد عسكريين أو عناصر ترتدي بزّات مدنية تابعة لأجهزة الأمن، ثم جرت عمليات إحراق متعمدة في بعض الأسواق والمحال والمنازل.

تركت هذه الحملة العسكرية المدمرة تأثيرات بعيدة المدى على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمدينة؛ إذ نزحت عائلات بأكملها من حماة؛ هربًا من العنف، وصودرت منازل ومحال تجارية، واختُبِرت أجيال عديدة بمشاعر الخوف والصدمة والإحساس بالظلم.

تجاهل المجزرة دوليًا ومحليًا

على الرغم من فداحة الجرائم التي ارتُكِبَت في حماة عام 1982، لم يشهد ذلك العصر أي تحرك رسمي أو دولي يمكن وصفه بالفاعل؛ إذ غاب تمامًا عن المشهد أي تحقيق أممي مستقل لتقصي الحقائق، بل حتى في المنظمات الحقوقية الدولية كان التناول شبه معدوم. ففي ذروة المجزرة، كانت سوريا ترزح تحت وطأة توازنات إقليمية ودولية معقدة: إذ انقسم العالم بين معسكرين أثناء الحرب الباردة، ما جعل كثيرًا من الانتهاكات الحقوقية في الشرق الأوسط تمر دون مساءلة حقيقية.

وعلى الصعيد المحلي، فرض النظام السوري تعتيمًا إعلاميًا مُحكَمًا؛ أغلقت الصحف المستقلة في وقت مبكر من عهد البعث، وسيطر الخطاب الرسمي الأحادي على المنافذ الإعلامية القليلة المتبقية.

ومع استمرار قانون الطوارئ المفروض منذ عام 1963، ضاقت إلى الحد الأقصى مساحة أي حراك سياسي مستقل يمكنه أن يُطالب بالتحقيق أو المحاسبة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تحوّل الحديث عن مجزرة حماة إلى "تابو" يُعرِّض من يتجاوزه للملاحقة والاعتقال. وهكذا تعذّر على الناجين أو أهالي الضحايا إيصال معاناتهم، وفقد الكثيرون الثقة بإمكانية تحصيل العدالة في ظل هيمنة السلطة المطلقة على القضاء والبرلمان والإعلام.

أسهم هذا التجاهل، محليًا ودوليًا، في ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب على مدى العقود اللاحقة. فقد وجّه النظام رسالة مفادها أنه قادر على ارتكاب انتهاكات جسيمة ضد المدنيين دون خشية من أي عقاب داخلي أو دولي. وخلَق هذا الوضع فراغًا استمرت تبعاته مع تفاقم انتهاكات مشابهة، حيث افتقد السوريون – ولا سيما أبناء حماة – إلى أي فرصة للمساءلة أو جبر الضرر.

لقد أدّى هذا التجاهل المشين إلى تشجيع نظام الأسد على ارتكاب مزيد من الجرائم والانتهاكات في السنوات والعقود اللاحقة، مستندًا إلى التجربة السابقة في الإفلات من العقاب.

فحين يغيب الردع الخارجي تزداد الجرأة لدى السلطة الحاكمة على توظيف الوسائل العنيفة كلما ارتأت في ذلك صيانة لبقائها. ولم يكن لقضية حماة أن تظل عالقة في الذاكرة السورية كجرح مفتوح فقط، بل تحوّلت أيضًا إلى نموذج يذكر من خلاله المواطنون والمعارضون على حد سواء، كيف يمكن للنظام أن يستخدم قوته المطلقة في غياب المحاسبة الدولية.

أهمية استعادة هذا الملف اليوم

عندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية العارمة عام 2011، عادت ذاكرة حماة لتطفو على السطح، سواء على مستوى المجتمع الذي استحضر ماضي المجزرة كرمز للبطش السلطوي، أو على مستوى السلطة الأمنية التي لجأت مجددًا إلى منهج القمع الوحشي.

وبهذا المعنى، يمكن القول إن أحداث 2011 لم تكن سوى امتداد لتاريخ قمعي ظل بلا رادع، نتيجة التقصير الدولي المريع، وغياب المساءلة عن الجرائم الكبرى التي ارتكبها نظام الأسد، بدءًا من حماة وصولًا إلى الانتهاكات الموثقة حديثًا.

في ظل التحولات السياسية الراهنة وزوال نظام الأسد، تصبح إعادة فتح ملف مجزرة حماة خطوة ضرورية لأجل إنصاف الضحايا، ولضمان عدم تكرار مثل هذه الممارسات الشنيعة مستقبلًا.

وعلى المستوى الدولي، يتطلَّب هذا التصحيح تحركًا فعليًا من قِبَل المنظومة الأممية ومنظمات حقوق الإنسان، سواء عبر تشكيل لجان تحقيق دولية متخصصة قادرة على الوصول إلى الحقائق الدامغة، أو من خلال تقديم الدعم المتواصل للحكومة السورية الجديدة في إرساء أسس قانونية وإدارية متينة للتعامل مع إرث المجزرة.

دور الحكومة السورية الجديدة

تضطلع الحكومة السورية الجديدة بمسؤولية تاريخية عظيمة في إرساء دعائم العدالة الانتقالية، والتي تبدأ بإلغاء القوانين التي كرّست ثقافة الإفلات من العقاب، لا سيما تلك التي منحت عناصر الأجهزة الأمنية حصانة قانونية واقية من الملاحقة القضائية.

فالمراسيم التشريعية الجائرة، مثل المرسوم رقم 14 لعام 1969، منعت أيضًا تحريك أي دعوى ضدهم دون إذن رسمي من القيادة العليا، مما أدى إلى ترسيخ شعور بالحصانة المطلقة لدى الجهات الأمنية والعسكرية.

وقد انعكست هذه القوانين سلبًا على بنية النظام القانوني برمته، حيث أصبح من شبه المستحيل فتح أي تحقيق جاد في الجرائم والانتهاكات الجسيمة التي وقعت خلال العقود الماضية. وعليه، فإن أحد أهم الأدوار التي يجب أن تضطلع بها الحكومة الجديدة، هو إصدار تشريعات صريحة تُبطل مفعول هذه القوانين وتستعيد للقضاء استقلاليته ونزاهته، بحيث يصبح من الممكن محاكمة المتورطين في الجرائم الكبرى، وفق معايير المحاكمة العادلة المتعارف عليها دوليًا.

وإلى جانب الإصلاحات التشريعية، يبرز دور التوثيق الشامل وجمع الشهادات الموثوقة كركيزة أساسية للوصول إلى الحقيقة الناصعة. فالانتهاكات الجسيمة، مثل مجزرة حماة المروعة، لا يمكن التعامل معها بفاعلية دون جمع الأدلة القاطعة وإجراء تحقيقات شفافة ومستقلة.

وفي هذا السياق الحساس، يصبح تشكيل لجنة وطنية للتحقيق أمرًا بالغ الأهمية، على أن تضم قضاة وخبراء قانونيين مستقلين وممثلين عن أهالي الضحايا، مع منح اللجنة صلاحيات واسعة للوصول إلى الوثائق الأمنية السرية، واستدعاء الشهود، وتحليل الأدلة والبراهين.

إن التحديات التي تواجه عمليات التوثيق، مثل التقادم الزمني، وندرة الوثائق الرسمية، تجعل شهادات الناجين وعائلات الضحايا والمطلعين على الأحداث مصدرًا لا غنى عنه لإعادة بناء الحقيقة الغائبة.

لذا، فإن الحكومة الجديدة مطالبة بتوفير بيئة آمنة لحماية الشهود، إضافة إلى دعم إنشاء أرشيف وطني جامع يحفظ شهادات الضحايا والأدلة المتوفرة لتوثيق ما حدث ومنع طمس الحقائق أو تحريفها مستقبلًا.

وإلى جانب التحقيقات القضائية والتوثيق الشامل، يعد الكشف عن الحقيقة الكاملة لمصير آلاف المفقودين أثناء مجزرة حماة عاملًا حاسمًا في تحقيق العدالة المنشودة ورد الاعتبار لعائلات الضحايا المفجوعة.

فخلال الحملة العسكرية الغاشمة، اختفى ما يقارب 17.000 شخص، ولا تزال عائلاتهم تجهل مصيرهم حتى اليوم، مما يجعل البحث عنهم واستعادة رفاتهم مطلبًا ملحًا لا يحتمل التأخير. ويتطلب ذلك تشكيل فرق متخصصة في البحث والتحري، تضم خبراء في الطب الشرعي والتعرف على الحَمض النووي، بهدف تحديد مواقع المقابر الجماعية السرية، وتحليل الرفات لتحديد هوية الضحايا.

إن تسليم رفات الضحايا لعائلاتهم هو خطوة أساسية في مسار الاعتراف الرسمي بالجرائم المرتكبة، ويساهم بشكل فعال في التخفيف من معاناة العائلات التي ظلت لعقود طويلة تعيش في حالة من الألم والانتظار القاتل.

إضافة إلى ذلك، فإن اعتراف الحكومة الجديدة الصريح بمجزرة حماة ودمجها في السجل التاريخي الرسمي من خلال المناهج التعليمية والمناسبات الوطنية يمثل بُعدًا هوياتيًا ضروريًا، يمنع طمس الحقائق أو تحريفها في المستقبل، ويضمن أن تكون هذه الأحداث المؤلمة درسًا بليغًا للأجيال القادمة.

وعلاوة على كشف الحقيقة كاملة، يتعين على الحكومة الجديدة اتخاذ تدابير ملموسة لجبر الضرر الواقع على الضحايا وعائلاتهم، سواء على المستوى المادي أو المعنوي. فالخسائر الفادحة التي تسببت بها المجزرة لم تقتصر على فقدان الأرواح الغالية، بل امتدت لتشمل تدمير الممتلكات ونهب المنازل وتشريد الأسر، مما يستوجب وضع برامج تعويض عادلة تعيد بعض الحقوق المسلوبة.

ويشمل ذلك تقديم تعويضات مالية عادلة ومنصفة لعائلات الضحايا والناجين، إضافة إلى إعادة الممتلكات المصادرة أو تعويض أصحابها وفق قيمتها السوقية العادلة. كما ينبغي أن تشمل عمليات جبر الضرر تقديم اعتذار رسمي صريح من الدولة، وإقامة نصب تذكاري مهيب تخليدًا لذكرى الضحايا الأبرياء، وضمان تقديم دعم نفسي واجتماعي متخصص للناجين وأسر المفقودين، الذين لا يزالون يعانون من آثار الصدمة النفسية.

أما على مستوى الضمانات المستقبلية لضمان عدم تكرار مثل هذه الجرائم البشعة، فإن الإصلاح المؤسسي الشامل يمثل أحد المحاور الأساسية التي يجب أن تركز عليها الحكومة الجديدة. فمن دون إصلاح جذري فاعل للأجهزة الأمنية والقضائية، سيظل خطر إعادة إنتاج الاستبداد قائمًا وبقوة.

ويتطلب ذلك إنشاء آليات رقابية مستقلة وفعالة للإشراف على أداء الأجهزة الأمنية، واستبعاد المسؤولين المتورطين في الانتهاكات الجسيمة من مواقع السلطة والنفوذ، وتعزيز استقلال القضاء بشكل كامل ليتمكن من محاسبة أي تجاوزات مستقبلية. كما ينبغي إدماج مبادئ حقوق الإنسان الأساسية في المناهج التعليمية، لضمان نشوء جيل جديد أكثر وعيًا بقيم العدالة والمساءلة.

وإضافة إلى ذلك، يتعين وضع إطار تشريعي متكامل يجرّم بشكل واضح وصريح الجرائم ضد الإنسانية، بما يشمل التعذيب الوحشي، والإخفاء القسري الممنهج، والاستهداف الجماعي العشوائي للمدنيين الأبرياء، مع توفير آليات قانونية واضحة تتيح ملاحقة المسؤولين عن هذه الجرائم بغض النظر عن مناصبهم أو رتبهم. وإلى جانب هذه الإصلاحات الداخلية الجوهرية، ينبغي تعزيز التعاون البناء مع المنظمات الحقوقية الدولية الموثوقة لضمان حيادية التحقيقات، والاستفادة المثلى من الخبرات العالمية المتراكمة.

خاتمة

يمثّل ملف مجزرة حماة 1982 اختبارًا حقيقيًا لمدى جدية الحكومة السورية الجديدة في النهوض بمسؤولياتها التاريخية حيال الماضي المؤلم وطي صفحته السوداء على أساس عادل ومستدام. فمن دون الشروع الفوري في تحقيق شفاف ونزيه وتفعيل آليات محددة وواضحة لمساءلة المسؤولين وتعويض المتضررين بشكل كامل وعادل، سيظل الإرث القمعي البغيض لنظام الأسد والموالين له ماثلًا للعيان، وستتعذر أي مصالحة وطنية حقيقية.

وفي هذا الإطار الحساس، لا بد من مد جسور التعاون الوثيق بين الجهات الرسمية السورية الجديدة والهيئات والمنظمات الدولية ذات الصلة، بحيث تزوّد الأخيرة تلك الجهات بالدعم الفني والقانوني اللازم، وتضفي شرعية دولية على أي خطوات جادة تُتَّخذ على المستوى الوطني.

وتظل هذه الإجراءات الشاملة مجتمعة السبيل الأمثل لردم الفجوة التاريخية الناجمة عن التقصير الأممي المخزي في الثمانينيات، والبرهان العملي القاطع على أن سوريا تختار اليوم مواجهة ماضيها المظلم بشكل مختلف وشجاع.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة